قُلتُم عَشَرَة ؟
٥ كانون الاول ٢٠١٢ - ٥ كانون الاول ٢٠٢٢ !
في ذكرى المثلث الرحمات أغناطيوس الرابع هزيم،
بطريرك مدينة الله انطاكية العظمى.
قُلتُم عَشَرَة ؟ وهل غابَ أغناطيوس الرابع هزيم وهو يَحضُر دائماً؟ ما هو سِرّ عودته واستذكاره الدائِم؟ هل يَغيب العُظمَاء؟ هل يرحلون دون ضجيج؟ ليس هذا الضجيج الأرضي بل هذا الضجيج الهادِف الذي يَجعلك على إنصاتٍ بخَفَر وسَلام وهُدوء لذلك الصَوت العائِد أبداً مِن هُناك، من وراء البحار والأرضيات، من هناك حيث لحنُ الألحان، من عُمق اعماق مَطارح الحُبّ الكَبير، اللامُتناهي، من نهر الانهار، ونور الانوار، ومسكن رب الأرباب، حيث يَسْكُن اليوم مَن احبَّ هنا كثيراً وتدرَّج صعوداً على مَطارح الرجاء.
سيدي، هل يَغيب العُظمَاء؟ وهل يذوب عِطرُ جوهرهم في روائح العالم والدهر الفاني، وهم قد فحَّ عِطرهم ارضيا ليصل الى مَشارف السَماء ؟ ومَا هي هَذه السنين الدَهريَّة، عيشاً معنا ام انفصالا عنا، في عمر الأبدية حيث لا تعداد ولا عَدَّادين، حيث تجري المياه المُتفجِّرة حياة دون انقطاع، حيث تصبح سنون من سعى للقداسة، اي لمُلاقاة وجه الوجوه ورب الارباب وعطر العطور الشذية، ولحن الالحان الشجية، تُصبِح كحبَّات المياه الكائنة بذاتها والمُلتصِقة والمُتَّحِدة مع الامواج الجارفة، فتعيش من عيشها، تتنفس من تنفسها، تجري بحيوة من جريانها ... هناك حيث تتلألأ الانوار ولا أنوار فيها الا نور النور... هناك حيث السنين البشرية ليست الا دقائق لا زمنيّة لا مُتناهية للضابِط الكُلّ، حيث يَرقد هناك، في النور الأبدِيّ الذي لا يَغرُب، ذلك الذي شَمَخَ هُنا مِن تواضع الكِبار وكِبَرْ المُتواضعين.
سيدي ما عساني ان اقول لك اليوم، الآن وهنا؟ ما عساني ان أقول لك ما لا تعرفه انت أصلاً، وما لم تُدرِكهُ في حياتك الارضية عن الصعوبات والتحديّات والضُعفات، والمَطبات والفخاخ القاتلة <وكم هي كثيرة في أيامنا هذه> والتجليَّات التي، بالرغم من الصعوبات، لا زالت تحضر في أوجه قداسة كثيرة من هنا وهناك؟ هل اقول لك اننا لا زلنا نبحث عن ظِلّ بولس حلب، كَمَن يَبحث، كما يقول المثل الفرنسي، عن إبرة في كومة قش ؟ هل احَدِّثُكَ عن النزعة الوطنية التي تعصُف بالأرثوذكسية ؟ وعن التنافُسِيَّة التي حَجَبَت كُل تكامُليَّة في الجِسم الكنسي الأرثوذكسي الواحد، وجعلت من الارثوذكسية أرثوذكسيات متنازِعة، والوحدة الأرثوذكسية مُتنازَعة، وجعلت من الأشقاء أدوات بخدمة السياسة التي بعمرها ما جمعت بل فرقت دائما ؟ هل أحدثك عن تداعيات هذا المنحى الخطر على الشهادة الأرثوذكسية في عالم اليوم وأخطار تراجعها وتموضعها في نسبيّة نسبيّة، في نوع من المياعة المنكفئة، و هل احدثك عن التجاذبات المُجتمعية المُتعصرنة التي تجعل من الايمان وجهة نظر واداة لخدمة لاهوت، اصبح اكثر فأكثر، مَطاطيٌّ في ظل زمن مَطَّاطيَّة القِيَم، هذه المطاطية التي طغت، تحت رداء التسامح واحترام التنوع إلخ؟
سيدي ماذا يبقى لي منك اليوم ؟ اولا الحضور. الحضور الراقي والمُستقيم، المُستقيم كالألِف والمُتواضع كوجه من وجوه القداسة. نعم، الحضور، ثم الحضور، ففي حضرتك كنا نشعر انك مِن هُنا وهُناك، في آن معاً. زَمَنيٌّ ولا زَمَني. تجسُّدِيٌّ (من سر التجسد) وصُعوديّ (من سر الصعود). مُتجذِّر في عُمق التاريخ والجغرافيا الارضيّة في دمشق الحبيبة ولبنان الذي عشقته، وبنفس الوقت توّاق للتحليق عاليا، مُنَزَّهاً عن كل الأرضيات، للتحليق في فضاء القداسة، هناك حيث يُصبح كل شيء خفيف ودَسِم بنفس الوقت، شفافٌ وناصِع، حُرٌّ وغيرُ مُقيَّدٍ ونورانيٌّ... سيدي كلنا نعرف كم كنت تقسَى على جسدك لكي لا تكون مُثقلا بأرضيّات على أنواعها، وكم لم تُقِم مِقياساً لتخزين الدهريّات على أنواعها، لكي تستعد دائما للتحليق بخفَّة هادِفة في العُلويَّات ... كما كتبت عنك حين الرُقاد، كنت "في تواضع وشموخ الكبار...". وهكذا انت، وهكذا كنت، ولا تزال، نجْمٌ من نجُوم الأرثوذكسية الانطاكيّة وعَلمٌ يُرفرف في ضِيائها وفضائها، ونبراس للأرثوذكسية الجامعة التي كنت في أحاديثنا حريصاً عليها وبنفس الوقت لم تكن تخفي خوفك عليها.
سيدي ماذا يبقى لي منك اليوم ؟ ثانيا، النبوية الهادِئَة. نعم، كم كنت نبويّا وكم كان خوفك على الوحدة الأرثوذكسية في محله وكم كنت صائباً ونبويا سيدي، لِمَا قد نَصلُ اليه في الأرثوذكسية، وها قد وصلنا إليه، إن لم نَتخَلّى عن الهويّات القاتلة، السياسيّة والهوياتية التي تُثقِل الأرثوذكسية بأثقال كثيرة وهَمرَجَة مُتنوعة غير نافِعة ... حاضرنا الأرثوذكسي فيه أحيانا الكثير الكثير من منطق مرتا مرتا ... كم كنت صائبًا حول رؤية تطور الأرثوذكسية في الكنائس الام وفي العالم الجديد وضرورات مُرافقة التطورات المتسارعة بذكاء رعائي هادِف...
سيدي ماذا يبقى لي منك اليوم ؟ ثالثا واخيراً، الأمان، وهو من الأمانة للأمانة، والأمانة لا تتطلب تعقيد للإيمان بل تبسيط هادِف. كم أراجع هذه الأيام أوراقي الديرية في ارشيفي الحي ومدوناتي بعد جلساتي مع أشخاص كبار مثلك. مِن جلساتنا في المَريميّة في شامُنا الحبيبة، في ذلك المكتب المُتواضع، هناك، تحت، في الطابق الارضي، حيث يَطل الجميع على الراعي ويرى الراعي الجميع، الذاهب والآتي، تبقى لي أمانة الأمانة عندك وكم كنت صائبا ورؤيويّاً في مواضيع رعائية كثيرة حول ضرورات "تبسيط" الايمان ليُصبح "بديهيّات للجميع"، الكبار والصغار ... هكذا كانت عِظاتك، التي رافقتني ساعات عند ترجمتُها للفرنسية، وكم غذّتني وهذّبتني. هكذا كنت، بلهجة مْحَرّدِة الحبيبة الشامِخة، بكلام بسيط وعميق لا يخلو من الدسامة اللاهوتية والحكمة الشعبية، كنت تخاطب الجميع بكلام يتناوله الكبير والصغير ...
سيدي، لن أعود إلى تداعيات الجائحة، وهي ليست فقط الجائحة الصحية لوباء الكوفيد، فالجائحات كثيرة في عيش عالم اليوم، لا نُدرِكها ألا عندما تظهر فجأة وتتمدد في عولمة متعولمة فيها فرص كبيرة إيجابية وفيها أخطار أكبر. لن أعود حول كيف كشفت الجائحة بعض عوراتنا، والعورات ليست فقط عند فريق، مُحَافِظ يُنتَقَد، دون الفريق الآخر، مُتعصرِن الذي يُنادي "بالإصلاح" الكنسي ... كما المواهب، كذلك العورات والمَطبات والأخطار موجودة، هنا وهناك، عند هذا الفريق وذلك.
ما ينقصنا اليوم، سيدي، ليست المواهب وهي كثيرة، بل فعل الرَحمة، والرحمة لا تأتي من لا شيء، بل من التمييز الروحي والوضوح بالرؤية لمن نحن، في العمق والجوهر، وليس في السطحيات والمتحفيَّات، وما المطلوب منا، الآن وهنا. نعم الرحمة في نقاشاتنا، ومُنازعاتنا، ومُشاداتنا، والرحمة تولد الجرأة، والجرأة الإقدام، والإقدام المُباشَرة، والمباشرة التوق نحو الحلول وشفاء الآخر والإعتناء به في زمن الشدة والأزمات، للولوج إلى الحلول الأخوية التي تصوِّب المَسارات وتبني وترحم وتُعيد المِقياس مُنشِداً ومُنشَدَّاً نحو مَن قال لنا، في سفر الرؤيا، أنه واقفٌ على الباب ويَقرع.
"ليَصمُت كل جَسَدٍ بَشَري، وليَقِف بخوفٍ ورَعدَةِ ولا يَفتكِر في نفسه بشيء ارضيّ، فإن مَلِك المُلوك وربَ الاربَاب يُوافي ليُذبح ويُعطَى طعاماً للمؤمنين". كنت تعشق ترتيل هذا الشيروبيكوم، ليوم السبت العظيم المُقدس الكبير. ومن ُأعطي يوماً أن يسمعك في المريمية في دمشق مُنشدا له بخفر ورهبة، يُدرك كم كنت، دائماً، واقفاً في حضرة الرب المقتدر القادر على كل شيء، وكيف كنت تقف إلى جانب العرش، برَهبة، ورعدة، وخشوع، مثل الأَلِفْ، مُستقيم، وبتأمُّل وبصوتٍ مُنخفض، فيه خفر وحضور، كنت ترتل بهدوئية فيها رهبة، هذه الكلمات الناريّة الرَهيبة.
نعم انت علَّمتنا ان "كل كلام فيه صمت، وكل صمت فيه كلام" وان المهم ان نقف دائما برهبة الحِضرَة الإلهيّة في كل لحظة وكل حين وكل دقيقة، عندها تنمو القوة الروحية الداخلية، وعندها يُصبِح كل شيء مُمكن، بقوة الرب ونعمه.
ذكرك دائما مؤبدا!
بقلم المحامي كارول سابا
يقول المغبوط الذكر الأب جورج مسوح عن البطريرك هزيم"
" لم يتحدّث البطريرك عن "قوميّة عربيّة"، بل تحدّث عن "المسيحيّين العرب"، لكنّه لم يهاجم القوميّة العربيّة. هو لم يكن قوميًّا عربيًّا، لكنّه كان عربيًّا ولم يقاطع القوميّين العرب. كانت الأولويّة لديه المسيح وكنيسته، ولذلك لم يؤمن بأيديولوجيّات أخرى قد تحجب المسيح عن الآخر. أمّا اللغة العربيّة لديه فهي وسيلة وليست غاية بحدّ ذاتها. هي وسيلة لإيصال المسيح كما يؤمن به المسيحيّون إلى قلوب المسلمين وعقولهم. اللغة العربيّة هي لغة البشارة المسيحيّة في هذه المنطقة، لأنّها هي اللغة المشتركة مع معظم المسلمين.
ما يميّز المسيحيّين العرب عن سواهم من المسيحيّين في العالم إنّما هو لغتهم العربيّة التي تجعلهم مسؤولين عن إيصال المسيح إلى جميع الناطقين بالضاد. هل يمكن في بلادنا نشر البشارة بالمسيح باللغات اليونانيّة أو الآراميّة أو الأرمنيّة أو أيّ لغة قديمة أخرى؟ نعتزّ بتاريخ كنيستنا وبتراثها وبلغتها القديمة، لكنّنا لا نريد أن نقتل حاضرنا وحاضر رسالتنا في سبيل نهضة لغات تجعلنا أسرى التاريخ.